فصل: باب كَيْفَ يَكُونُ الرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب كَيْفَ يَكُونُ الرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ بالتنوين ‏(‏كيف يكون الرجل في أهله‏)‏ ‏؟‏ ذكر فيه حديث عائشة ‏"‏ كان في مهنة أهله ‏"‏ وقد تقدم شرحه في أبواب صلاة الجماعة من كتاب الصلاة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ قَالَتْ كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏"‏ في مهنة أهله ‏"‏ المهنة بكسر الميم وبفتحها، وأنكر الأصمعي الكسر وفسرها هناك بخدمة أهله، وبينت أن التفسير من قول الراوي عن شعبة، وأن جماعة رووه عن شعبة بدونها، وكذا أخرجه ابن سعد في الترجمة النبوية عن وهب بن جرير وعفان وأبي قطن كلهم عن شعبة بدونها؛ لكن وقع عنده عن أبي النضر عن شعبة في أخره ‏"‏ يعني بالمهنة في خدمة أهله ‏"‏ وقد وقع في حديث آخر لعائشة أخرجه أحمد وابن سعد وصححه ابن حبان من رواية هشام بن عروة عن أبيه ‏"‏ قلت لعائشة‏:‏ ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته‏؟‏ قالت‏:‏ يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم ‏"‏ وفي رواية لابن حبان ‏"‏ ما يعمل أحدكم في بيته ‏"‏ وله ولأحمد من رواية الزهري عن عروة عن عائشة ‏"‏ يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويرقع دلوه ‏"‏ وله من طريق معاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة بلفظ ‏"‏ ما كان إلا بشرا من البشر، كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه ‏"‏ وأخرجه الترمذي في الشمائل والبزار وقال‏:‏ وروي عن يحيى عن القاسم عن عائشة، وروي عن يحيي عن حميد المكي عن مجاهد عن عائشة‏.‏

وفي رواية حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عند أبي سعد ‏"‏ كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلا من رجالكم إلا أنه كان بساما ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ من أخلاق الأنبياء التواضـع، والبعد عن التنعم، وامتهان النفس ليستن بهم ولئلا يخلدوا إلى الرفاهية المذمومة، وقد أشير إلى ذمها بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا‏)‏ ‏.‏

*3*باب الْمِقَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب المقة من الله‏)‏ أي ابتداؤها من الله‏.‏

المقة بكسر الميم وتخفيف القاف هي المحبة، وقد ومق يمق، والأصل الومق والهاء فيه عوض عن الواو، كعدة ووعد وزنة ووزن‏.‏

وهذه الترجمة لفظ زيادة وقعت في نحو حديث الباب في بعض طرقه، لكنها على غير شرط البخاري فأشار إليها في الترجمة كعادته، أخرجه أحمد والطبراني وابن أبي شيبة من طريق محمد بن سعد الأنصاري عن أبي ظبية بمعجمة عن أبي أمامة مرفوعا قال‏:‏ ‏"‏ المقة من الله والصيت من السماء، فإذا أحب الله عبدا ‏"‏ الحديث‏.‏

وللبزار من طريق أبي وكيع الجراح بن مليح عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ ما من عبد إلا وله صيت في السماء، فإن كان حسنا وضع في الأرض وإن كان سيئا وضع في الأرض ‏"‏ والصيت بكسر الصاد المهملة وسكون التحتانية بعدها مثناة أصله الصوت كالريح من الروح، والمراد به الذكر الجميل، وربما قيل لضده لكن بقيد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْداً نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَاناً فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَاناً فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أبو عاصم‏)‏ هو النبيل، وهو من كبار شيوخ البخاري وربما روى عنه بواسطة مثل هذا، فقد علقه في بدء الخلق لأبي عاصم وقد نبهت عليه ثم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن نافع‏)‏ هو مولى ابن عمر، قال البزار بعد أن أخرجه عن عمرو بن علي الفلاس شيخ البخاري فيه‏:‏ لم يروه عن نافع إلا موسى بن عقبة، ولا عن موسى إلا ابن جريج‏.‏

قلت‏:‏ وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثوبان عند أحمد والطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ وأبو أمامة عند أحمد، ورواه عن أبي هريرة أبو صالح عند المصنف في التوحيد وأخرجه مسلم والبزار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا أحب الله العبد‏)‏ وقع في بعض طرقه بيان سبب هذه المحبة والمراد بها، ففي حديث ثوبان ‏"‏ إن العبد ليلتمس مرضاة الله تعالى فلا يزال كذلك حتى يقول‏:‏ يا جبريل إن عبدي فلانا يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي غلبت عليه ‏"‏ الحديث أخرجه أحمد والطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ ويشهد له حديث أبي هريرة الآتي في الرقاق ففيه‏:‏ ‏"‏ ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن الله يحب فلانا فأحبه‏)‏ بفتح الموحدة المشددة ويجوز الضم، ووقع في حديث ثوبان ‏"‏ فيقول جبريل‏:‏ رحمة الله على فلان، وتقوله حملة العرش‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فينادي جبريل في أهل السماء الخ‏)‏ في حديث ثوبان أهل السماوات السبع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم يوضع له القبول في أهل الأرض‏)‏ زاد الطبراني في حديث ثوبان ‏"‏ ثم يهبط إلى الأرض، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا‏)‏ وثبتت هذه الزيادة في آخر هذا الحديث عند الترمذي وابن حاتم من طريق سهيل عن أبيه، وقد أخرج مسلم إسنادها ولم يسق اللفظ، وزاد مسلم فيه ‏"‏ وإذا أبغض عبدا دعا جبريل ‏"‏ فساقه على منوال الحب وقال في آخره ‏"‏ ثم يوضع له البغضاء في الأرض ‏"‏ ونحوه في حديث أبي أمامة عند أحمد، وفي حديث ثوبان عند الطبراني ‏"‏ وإن العبد يعمل بسخط الله فيقول الله يا جبريل إن فلانا يستسخطني ‏"‏ فذكر الحديث على منوال الحب أيضا وفيه ‏"‏ فيقول جبريل‏:‏ سخطة الله على فلان ‏"‏ وفي آخره مثل ما في الحب ‏"‏ حتى يقوله أهل السماوات السبع، ثم يهبط إلى الأرض ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ يوضع له القبول ‏"‏ هو من قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فتقبلها ربها بقبول حسن‏)‏ أي رضيها، قال المطرزي‏:‏ القبول مصدر لم أسمع غيره بالفتح؛ وقد جاء مفسرا في رواية القعنبي ‏"‏ فيوضع له المحبة ‏"‏ والقبول الرضا بالشيء وميل النفس إليه‏.‏

وقال ابن القطاع‏:‏ قبل الله منك قبولا والشيء والهدية أخذت‏.‏

والخبر صدق، وفي التهذيب‏:‏ عليه قبول إذا كانت العين تقبله، والقبول من الريح الصبا لأنها تستقبل الدبور، والقبول أن يقبل العفو والعافية وغير ذلك، وهو اسم للمصدر أميت الفعل منه‏.‏

وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ القبول بفتح القاف لم أسمع غيره، يقال فلان عليه قبول إذا قبلته النفس، وتقبلت الشيء قبولا‏.‏

ونحوه لابن الأعرابي وزاد‏:‏ قبلته قبولا بالفتح والضم، وكذا قبلت هديته عن اللحياني‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ في هذه الزيادة رد على ما يقوله القدرية إن الشر من فعل العبد وليس من خلق الله انتهى‏.‏

والمراد بالقبول في حديث الباب قبول القلوب له بالمحبة والميل إليه والرضا عنه، ويؤخذ منه أن محبة قلوب الناس علامة محبة الله، ويؤيده ما تقدم في الجنائز ‏"‏ أنتم شهداء الله في الأرض ‏"‏ والمراد بمحبة الله إرادة الخير للعبد وحصول الثواب له، وبمحبة الملائكـة استغفارهم له وإرادتهم خير الدارين له وميل قلوبهم إليه لكونه مطيعا لله محبا له، ومحبة العباد له اعتقادهم فيه الخير وإرادتهم دفع الشر عنه ما أمكن، وقد تطلق محبة الله تعالى للشيء على إرادة إيجاده وعلى إرادة تكميله، والمحبة التي في هذا الباب من القبيل الثاني، وحقيقة المحبة عند أهل المعرفة من المعلومات التي لا تحد وإنما يعرفها من قامت به وجدانا لا يمكن التعبير عنه، والحب على ثلاثة أقسام‏:‏ إلهي وروحاني وطبيعي، وحديث الباب يشتمل على هذه الأقسام الثلاثة، فحب الله العبد حب إلهي، وحب جبريل والملائكة له حب روحاني، وحب العباد له حب طبيعي‏.‏

*3*باب الْحُبِّ فِي اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الحب في الله‏)‏ ذكر فيه حديث أنس ‏"‏ لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله ‏"‏ الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإيمان، وبيان أن هذه الترجمة أول حديث أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي أمامة ولفظه ‏"‏ الحب في الله والبغض في الله من الإيمان ‏"‏ وأن له طرقا أخرى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجِدُ أَحَدٌ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏"‏ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ‏"‏ معناه أن من استكمل الإيمان علم أن حق الله ورسوله آكد عليه من حق أبيه وأمه وولده وزوجه وجميع الناس، لأن الهدى من الضلال والخلاص من النار إنما كان بالله على لسان رسوله، ومن علامات محبته نصر دينه بالقول والفعل والذب عن شريعته والتخلق بأخلاقه، والله أعلم‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ

عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ إِلَى قَوْلِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم‏)‏ الآية‏)‏ كذا لأبي ذر والنسفي، وسقطت الآية لغيرهما وزاد ‏(‏عسى أن يكـونوا خيرا منهم - إلى قوله - فأولئك هم الظالمون‏)‏ ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ لا يسخر ‏"‏ نهى عن السخرية وهي فعل الساخر، وهو الذي يهزأ منه، والسخرية تسخير خاص والسخرية سياقه الشيء إلى الغرض المختص به قهرا، فورد النهي عن استهزاء المرء بالآخر تنقيصا له مع احتمال أن يكون في نفس الأمر خيرا منه، وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رفعه في أثناء حديث ‏"‏ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَضْحَكَ الرَّجُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْأَنْفُسِ وَقَالَ بِمَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْفَحْلِ أَوْ الْعَبْدِ ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَوُهَيْبٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ جَلْدَ الْعَبْدِ

الشرح‏:‏

حديث عبد الله بن زمعة ‏"‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنفس ‏"‏ وقد تقدم في تفسير ‏(‏والشمس وضحاها‏)‏ من وجه آخر عن هشام بن عروة رواية هنا بلفظ ‏"‏ ثم وعظهم في الضرطة فقال‏:‏ لم يضحك أحدهم مما يخرج منه ‏"‏ قوله‏:‏ ‏(‏وقال الثوري ووهيب بن خالد وأبو معاوية عن هشام جلد العبد‏)‏ يريد أن هؤلاء الثلاثة رووه عن هشام بن عروة بهذا الإسناد في قصة النهي عن ضرب المرأة، وأن هؤلاء جزموا بقولهم ‏"‏ جلد العبد ‏"‏ موضع شك ابن عيينة هل قال جلد الفحل أو جلد العبد، والتعاليق الثلاثة تقدم بيان كونها موصولة، أما رواية الثوري فوصلها المؤلف في النكاح وساقها كذلـك، وأما رواية وهيب فوصلها المؤلف في التفسير كذلك، وأما رواية أبي معاوية فوصلها أحمد وإسحاق كذلك وتقدم التنبيه عليها في التفسير أيضا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ أَفَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ بَلَدٌ حَرَامٌ أَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، والغرض منه بيان تحريم العرض - وهو موضع المدح والذم من الشخص - أعم من أن يكون في نفسه أو نسبه أو حسبه‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ عرض الرجل بدنه ونفسه لا غير، ومنه استبرأ لدينه وعرضه‏.‏

قلت‏:‏ ولا حجة فيه لما ادعاه من الحصر، ويدل للأول قول حسان‏:‏ فإن أبي ووالـده وعـرضي لعـرض محمـد منكم وقـاء يخاطب بذلك من كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر ما يقع تهاجيهم في مدح الآباء وذمهم، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب الحج، وعند مسلم من حديث أبي هريرة ‏"‏ كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله‏"‏‏.‏

*3*باب مَا يُنْهَى مِنْ السِّبَابِ وَاللَّعْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما ينهى من السباب واللعن‏)‏ في رواية غير أبي ذر والنسفي ‏"‏ عن ‏"‏ بدل ‏"‏ من ‏"‏ وهي أولى، وفي الأول حذف تقديره ما ينهى عنه‏.‏

والسباب بكسر المهملة وتخفيف الموحدة تقدم بيانه مع شرح الحديث الأول في كتاب الإيمان، وهو محتمل لأن يكون على ظاهر لفظه من التفاعل، ويحتمل أن يكون بمعنى السب وهو الشتم وهو نسبة الإنسان إلى عيب ما، وعلى الأول فحكم من بدأ منهما أن الوزر عليه حتى يعتدي الثاني كما ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة وصحح ابن حبان من حديث العرباض بن سارية قال‏:‏ ‏"‏ المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان‏"‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ تَابَعَهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ

الشرح‏:‏

قوله ‏"‏تابعه محمد بن جعفر عن شعبة ‏"‏ وصله أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر وهو غندر بهذا الإسناد لكن قال فيه ‏"‏ عن شعبة عن زبيد ومنصور ‏"‏ وزاد فيه زبيدا وهو بالزاي والموحدة مصغر، ومعنى اللعن الدعاء بالإبعاد من رحمة الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ الدِّيلِيَّ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفُسُوقِ وَلَا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن الحسين‏)‏ هو ابن ذكوان المعلم، والإسناد إلى أبي ذر بصريون وقد دخلها هو أيضا‏.‏

وفي رواية مسلم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث ‏"‏ حدثنا أبي حدثنا الحسين المعلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي ذر‏)‏ في رواية الإسماعيلي من وجهين ‏"‏ عن أبي معمر ‏"‏ شيخ البخاري فيه بالسند إلى أبي الأسود أن أبا ذر حدثه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كما قال‏)‏ وفي رواية للإسماعيلي ‏"‏ إلا حار عليه ‏"‏ وفي أخرى ‏"‏ إلا ارتدت عليه ‏"‏ يعني رجعت عليه و ‏"‏ حار ‏"‏ بمهملتين أي رجع، وهذا يقتضي أن من قال لآخر أنت فاسق أو قال له أنت كافر فإن كان ليس كما قال كان هو المستحق للوصف المذكور، وأنه إذا كان كما قال لم يرجع عليه شيء لكونه صدق فيما قال، ولكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك فاسقا ولا كافرا أن لا يكون آثما في صورة قوله له أنت فاسق بل في هذه الصورة تفصيل‏:‏ إن قصد نصحه أو نصح غيره ببيان حاله جاز، وإن قصد تعييره وشهرته بذلك ومحض أذاه لم يجز، لأنه مأمور بالستر عليه وتعليمه وعظته بالحسنى، فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أن يفعله بالعنف لأنه قد يكون سببا لإغرائه وإصراره على ذلك الفعل كما في طبع كثير من الناس من الأنفة، ولا سيما إن كان الآمر دون المأمور في المنزلة‏.‏

ووقع في رواية مسلم بلفظ ‏"‏ ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه ‏"‏ ذكره في أثناء حديث في ذم من ادعى إلى غير أبيه، وقد تقدم صدره في مناقب قريش بالإسناد المذكور هنا، فهو حديث واحد فرقه البخاري حديثين، وسيأتي هذا المتن في ‏"‏ باب من أكفر أخاه بغير تأويل ‏"‏ من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر بلفظ فقد باء بها أحدهما وهو بمعنى رجع أيضا، قال النووي‏:‏ اختلف في تأويل هذا الرجوع فقيل رجع عليه الكفر إن كان مستحلا، وهذا بعيد من سياق الخبر، وقيل‏:‏ محمول على الخوارج لأنهم يكفرون المؤمنين هكذا نقله عياض عن مالك وهو ضعيف‏.‏

لأن الصحيح عند الأكثرين أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم‏.‏

قلت‏:‏ ولما قاله مالك وجه، وهو أن منهم من يكفر كثيرا من الصحابة ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وبالإيمان فيكون تكفيرهم من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة لا من مجرد صدور التكفير منهم بتأويل كما سيأتي إيضاحه في ‏"‏ باب من أكفر أخاه بغير تأويل ‏"‏ والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم، وذلك قبل وجود فرقة الخوارج وغيرهم‏.‏

وقيل‏:‏ معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره، وهذا لا بأس به‏.‏

وقيل‏:‏ يخشى عليه أن يؤول به ذلك إلى الكفر كما قيل‏:‏ المعاصي بريد الكفر فيخاف على من أدامها وأصر عليها سوء الخاتمة، وأرجح من الجميع أن من قال ذلك لمن يعرف منه الإسلام ولم يقم له شبهة في زعمه أنه كافر فإنه يكفر بذلك كما سيأتي تقريره، فمعنى الحديث فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير لا الكفر، فكأنه كفر نفسه لكونه كفر من هو مثله، ومن لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام، ويؤيده أن في بعض طرقه ‏"‏ وجب الكفر على أحدهما ‏"‏ وقال القرطبي‏:‏ حيث جاء الكفر في لسان الشرع فهو جحد المعلوم من دين الإسلام بالضرورة الشرعية، وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم وترك شكر المنعم والقيام بحقه كما تقدم تقريره في كتاب الإيمان في ‏"‏ باب كفر دون كفر ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد ‏"‏ يكفرن الإحسان ويكفرن العشير ‏"‏ قال وقوله باء بها أحدهما أي رجع بإثمها ولازم ذلك، وأصل البوء اللزوم، ومنه‏:‏ ‏"‏ أبوء بنعمتك ‏"‏ أي ألزمها نفسي وأقر بها قال‏:‏ والهاء في قوله‏:‏ ‏"‏ بها ‏"‏ راجع إلى التكفيرة الواحدة التي هي أقل ما يدل عليها لفظ كافر، ويحتمل أن يعود إلى الكلمة‏.‏

والحاصل أن المقول له إن كان كافرا كفرا شرعيا فقد صدق القائل وذهب بها المقول له، وإن لم يكن رجعت للقائل معرة ذلك القول وإثمه، كذا اقتصر على هذا التأويل في رجع، وهو من أعدل الأجوبة، وقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء بسند جيد رفعه ‏"‏ إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلا وإلا رجعت إلى قائلها ‏"‏ وله شاهد عند أحمد من حديث ابن مسعود بسند حسن وآخر عند أبي داود والترمذي عن ابن عباس ورواته ثقات، ولكنه أعل بالإرسال‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشاً وَلَا لَعَّاناً وَلَا سَبَّاباً كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ

الشرح‏:‏

حديث أنس تقدم شرحه في ‏"‏ باب حسن الخلق‏"‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِناً فَهُوَ كَقَتْلِهِ وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِناً بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ

الشرح‏:‏

حديث ثابت بن الضحاك وقد اشتمل على خمسة أحكام وسيأتي في ‏"‏ باب من أكفر أخاه بغير تأويل ‏"‏ بتمامه إلا خصلة واحدة منها، ويأتي كذلك في الأيمان والنذور، ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى، ويؤخذ حكم ما يتعلق بتكفير من كفر المسلم من الذي قبله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ لعن المسلم كقتله ‏"‏ أي لأنه إذا لعنه فكأنه دعا عليه بالهلاك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَقَالَ أَتُرَى بِي بَأْسٌ أَمَجْنُونٌ أَنَا اذْهَبْ

الشرح‏:‏

حديث سليمان بن صرد بضم الصاد وفتح الراء بعدها دال مهملات، وهو ابن الجـون بن أبي الجون الخـزاعي، صحابي شهير يقال كان اسمه يسار بتحتانية ومهملة فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، ويكنى أبا المطرف، وقتل في سنة خمس وستين وله ثلاث وتسعون سنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏استب رجلان‏)‏ لم أعرف أسماءهما ووقع في صفة إبليس من وجه آخر عن الأعمش بهذا السند ‏"‏ كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى انتفخ وجهه‏)‏ في الرواية المذكورة ‏"‏ فاحمر وجهه وانتفخت أوداجه ‏"‏ وفي رواية مسلم ‏"‏ تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه ‏"‏ وقد تقدم تفسير الودج في صفة إبليس، وفي حديث معاذ بن جبل عند أحمد وأصحاب السنن ‏"‏ حتى أنه ليخيل إلي أن أنفه ليتمزع من الغضب‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد‏)‏ في الرواية المذكورة ‏"‏ لو قال أعوذ بالله من الشيطان ‏"‏ وفي رواية مسلم ‏"‏ الرجيم ‏"‏ ومثله في حديث معاذ ولفظه ‏"‏ إني لأعلم كلمة لو يقولها هذا الغضبان لذهب عنه الغضب‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فانطلق إليه الرجل‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وفي الرواية المتقدمة ‏"‏ فقالوا له ‏"‏ فدلت هذه الرواية على أن الذي خاطبه منهم واحد وهو معاذ بن جبل كما بينته رواية أبي داود ولفظه ‏"‏ قال فجعل معاذ يأمره، فأبى وضحك وجعل يزداد غضبا ‏"‏ قوله‏:‏ ‏(‏وقال تعوذ بالله‏)‏ في الرواية المذكورة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعوذ بالله ‏"‏ وهو بالمعنى فإنه صلى الله عليه وسلم أرشده إلى ذلك، وليس في الخبر أنه أمرهم أن يأمروه بذلك، لكن استفادوا ذلك من طريق عموم الأمر بالنصيحة للمسلمين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أترى بي بأس‏)‏ بضم التاء أي أتظن، ووقع ‏"‏ بأس ‏"‏ هنا بالرفع للأكثر وفي بعضها ‏"‏ بأسا ‏"‏ بالنصب وهو أوجه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أمجنون أنا‏)‏ في الرواية المذكورة ‏"‏ وهل بي من جنون ‏"‏‏؟‏ قوله‏:‏ ‏(‏اذهب‏)‏ هو خطاب من الرجل للرجل الذي أمره بالتعوذ أي امض في شغلك‏.‏

وأخلق بهذا المأمور أن يكون كافرا أو منافقا، أو كان غلب عليه الغضب حتى أخرجه عن الاعتدال بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه ما كان به من وهج الغضب بهذا الجواب السيء، وقيل‏:‏ إنه كان من جفاة الأعراب وظن أنه لا يستعيذ من الشيطان إلا من به جنون، ولم يعلم أن الغضب نوع من شر الشيطان ولهذا يخرج به عن صورته ويزين إفساد ما له كتقطيع ثوبه وكسر آنيته أو الإقدام على من أغضبه ونحو ذلك مما يتعاطاه من يخرج عن الاعتدال، وقد أخرج أبو داود من حديث عطية السعدي رفعه ‏"‏ إن الغضب من الشيطان ‏"‏ الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَ النَّاسَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَإِنَّهَا رُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْراً لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ

الشرح‏:‏

حديث عبادة بن الصامت في ذكر ليلة القدر وقد تقدم في أواخر الصيام مشروحا وأورده هنا لقوله فيه ‏"‏ فتلاحى ‏"‏ أي تنازع، والتلاحي بالمهملة أي التجادل والتنازع، وهو يفضي في الغالب إلى المساببة وتقدم أن الرجلين هما كعب بن مالك وعبد الله بن أبي حدرد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ هُوَ ابْنُ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ رَأَيْتُ عَلَيْهِ بُرْداً وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْداً فَقُلْتُ لَوْ أَخَذْتَ هَذَا فَلَبِسْتَهُ كَانَتْ حُلَّةً وَأَعْطَيْتَهُ ثَوْباً آخَرَ فَقَالَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلَامٌ وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَنِلْتُ مِنْهَا فَذَكَرَنِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي أَسَابَبْتَ فُلَاناً قُلْتُ نَعَمْ قَالَ أَفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ قُلْتُ عَلَى حِينِ سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ قَالَ نَعَمْ هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا يُكَلِّفُهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

حديث أبي ذر ‏"‏ ساببت رجلا ‏"‏ وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان وأن الرجل المذكور هو بلال المؤذن، وكان اسم أمه حمامة بفتح المهملة وتخفيف الميم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ إنك امرؤ فيك جاهلية ‏"‏ التنوين للتقليل، والجاهلية ما كان قبل الإسلام، ويحتمل أن يراد بها هنا الجهل أي إن فيك جهلا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ قلت على ساعتي هذه من كبر السن ‏"‏ أي هل في جاهلية أو جهل وأنا شيخ كبير‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ هم إخوانكم ‏"‏ أي العبيد أو الخدم حتى يدخل من ليس في الرق منهم، وقرينة قوله‏:‏ ‏"‏ تحت أيديكم ‏"‏ ترشد إليه، ويؤخذ منه المبالغة في ذم السب واللعن لما فيه من احتقار المسلم، وقد جاء الشرع بالتسوية بين المسلمين في معظم الأحكام، وأن التفاضل الحقيقي بينهم إنما هو بالتقوى، فلا يفيد الشريف النسب نسبه إذا لم يكن من أهل التقوى، وينتفع الوضيع النسب بالتقوى كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏إن أكرمكم عند الله أتقاكم‏)‏ ‏.‏

*3*باب مَا يَجُوزُ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ وَمَا لَا يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يجوز من ذكر الناس‏)‏ أي بأوصافهم ‏(‏نحو قولهم الطويل والقصير‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول ذو اليدين، وما لا يراد به شين الرجل‏)‏ هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الألقاب وما لا يعجب الرجل أن يوصف به مما هو فيه‏.‏

وحاصله أن اللقب إن كان مما يعجب الملقب ولا إطراء فيه مما يدخل في نهي الشرع فهو جائز أو مستحب، وإن كان مما لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلا إن تعين طريقا إلى التعريف به حيث يشتهر به ولا يتميز عن غيره إلا بذكره، ومن ثم أكثر الرواة من ذكر الأعمش والأعرج ونحوهما وعارم وغندر وغيرهم، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لما سلم في ركعتين من صلاة الظهر فقال ‏"‏ أكما يقول ذو اليدين ‏"‏ وقد أورده المصنف في الباب ولم يذكر هذه الزيادة‏.‏

وقال في سياق الرواية التي أوردها ‏"‏ وفي القوم رجل كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه ذا اليدين ‏"‏ وأما الرواية التي علقها في الباب فوصلها في ‏"‏ باب تشبيك الأصابع ‏"‏ في أوائل كتاب الصلاة من طريق ابن عون عن ابن سيرين عن أبي هريرة ولكن لفظه ‏"‏ أكما يقول ذو اليدين ‏"‏‏؟‏ وقد أخرجه مسلم من طريق أيوب عن ابن سيرين بلفظ ‏"‏ ما يقول ذو اليدين ‏"‏‏؟‏ وهو المطابق للتعليق المذكور، وإلى ما ذهب إليه البخاري من التفصيل في ذلك ذهب الجمهور، وشذ قوم فشددوا حتى نقل عن الحسن البصري أنه كان يقول‏:‏ أخاف أن يكون قولنا حميدا الطويل غيبة، وكأن البخاري لمح بذلك حيث ذكر قصة ذي اليدين وفيها ‏"‏ وفي القوم رجل في يديه طول ‏"‏ قال ابن المنير أشار البخاري إلى أن ذكر مثل هذا إن كان للبيان والتمييز فهو جائز وإن كان للتنقيص لم يجز، قال‏:‏ وجاء في بعض الحديث عن عائشة في المرأة التي دخلت عليها فأشارت بيدها أنها قصيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اغتبتيها ‏"‏ وذلك أنها لم تفعل هذا بيانا إنما قصدت الإخبار عن صفتها فكان كالاغتياب انتهى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِي الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا قَصُرَتْ الصَّلَاةُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ ذَا الْيَدَيْنِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ فَقَالَ لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ قَالُوا بَلْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثُمَّ وَضَعَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ

الشرح‏:‏

الحديث المذكور أخرجه ابن أبي الدنيا في ‏"‏ كتاب الغيبة ‏"‏ وابن مردويه في ‏"‏ التفسير ‏"‏ و في من طريق حبان بن مخارق عن عائشة وهو‏.‏

*3*باب الْغِيبَةِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الغيبة وقول الله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا يغتب بعضكم بعضا‏)‏ الآية‏)‏ هكذا اكتفى بذكر الآية المصرحة بالنهي عن الغيبة ولم يذكر حكمها كما ذكر حكم النميمة بعد بابين حيث جزم بأن النميمة من الكبائر، وقد اختلف في حد الغيبة وفي حكمها، فأما حدها فقال الراغب‏:‏ هي أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه‏.‏

وقال ابن الأثير في النهاية‏:‏ الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه‏.‏

وقال النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏ تبعا للغزالي‏:‏ ذكر المرء بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز‏.‏

قال النووي‏:‏ وممن يستعمل التعريض في ذلك كثير من الفقهاء في التصانيف وغيرها كقولهم قال بعض من يدعي العلم أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو نحو ذلك مما يفهم السامع المراد به، ومنه قولهم عند ذكره‏:‏ الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة‏.‏

وتمسك من قال‏:‏ إنها لا يشترط فيها غيبة الشخص بالحديث المشهور الذي أخرجه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ أتدرون ما الغيبة‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏

قال‏:‏ ذكرك أخاك بما يكرهه‏.‏

قال‏:‏ أفرأيت إن كان في أخي ما أقول‏؟‏ قال‏:‏ إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ‏"‏ وله شاهد مرسل عن المطلب بن عبد الله عند مالك، فلم يقيد ذلك بغيبة الشخص فدل على أن لا فرق بين أن يقول ذلك في غيبته أو في حضوره، والأرجح اختصاصها بالغيبة مراعاة لاشتقاقها؛ وبذلك جزم أهل اللغة‏.‏

قال ابن التين‏:‏ الغيبة ذكر المرء بما يكرهه بظهر الغيب‏.‏

وكـذا قيده الزمخشري وأبو نصر القشيري في التفسير وابن خميس في جزء له مفرد في الغيبة والمنذري وغير واحد من العلماء من آخرهم الكرماني قال‏:‏ الغيبة أن تتكلم خلف الإنسان بما يكرهه لو سمعه وكان صدقا‏.‏

قال‏:‏ وحكم الكناية والإشارة مع النية كذلك‏.‏

وكلام من أطلق منهم محمول على المقيد في ذلك‏.‏

وقد وقع في حديث سليم بن جابر والحديث سيق لبيان صفتها واكتفي باسمها على ذكر محلها‏.‏

نعم المواجهة بما ذكر حرام لأنه داخل في السب والشتم، وأما حكمها فقال النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏‏:‏ الغيبة والنميمة محرمتان بإجماع المسلمين، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك‏.‏

وذكر في ‏"‏ الروضة ‏"‏ تبعا للرافعي أنها من الصغائر، وتعقبه جماعة‏.‏

ونقل أبو عبد الله القرطبي في تفسيره الإجماع على أنها من الكبائر لأن حد الكبيرة صادق عليها لأنها مما ثبت الوعيد الشديد فيه‏.‏

وقال الأذرعي لم أر من صرح بأنها من الصغائر إلا صاحب العدة والغزالي‏.‏

وصرح بعضهم بأنها من الكبائر‏.‏

وإذا لم يثبت الإجماع فلا أقل من التفصيل، فمن اغتاب وليا لله أو عالما ليس كمن اغتاب مجهول الحالة مثلا‏.‏

وقد قالوا‏:‏ ضابطها ذكر الشخص بما يكره، وهذا يختلف باختلاف ما يقال فيه، وقد يشتد تأذيه بذلك وأذى المسلم محرم‏.‏

وذكر النووي من الأحاديث الدالة على تحريم الغيبة حديث أنس رفعه ‏"‏ لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم‏.‏

قلت‏:‏ من هؤلاء يا جبريل‏؟‏ قال‏:‏ هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ‏"‏ أخرجه أبو داود وله شاهد عن ابن عباس عند أحمد وحديث سعيد بن زيد رفعه ‏"‏ إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق ‏"‏ أخرجه أبو داود، وله شاهد عند البزار وابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة، وعند أبي يعلى من حديث عائشة، ومن حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب له يوم القيامة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيا، فيأكله ويكلح ويصيح ‏"‏ سنده حسن‏.‏

وفي ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏"‏ ما التقم أحد لقمة شرا من اغتياب مؤمن ‏"‏ الحديث، وفيه أيضا وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة في قصة ماعز ورجمه في الزنا ‏"‏ وإن رجلا قال لصاحبه انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم كلا من جيفة هذا الحمار - لحمار ميت - فما نلتما من عرض هذا الرجل أشد من أكل هذه الجيفة ‏"‏ وأخرج أحمد والبخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ بسند حسن عن جابر قال‏:‏ ‏"‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهاجت ريح منتنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين ‏"‏ وهذا الوعيد في هذه الأحاديث يدل على أن الغيبة من الكبائر، لكن تقييده في بعضها بغير حق قد يخرج الغيبة بحق لما تقرر أنها ذكر المرء بما فيه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِداً يُحَدِّثُ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا هَذَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَأَمَّا هَذَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِداً وَعَلَى هَذَا وَاحِداً ثُمَّ قَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين يعذبان ‏"‏ الحديث وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة، وليس فيه ذكر الغيبة بل فيه يمشي بالنميمة، قال ابن التين‏:‏ إنما ترجم بالغيبة وذكر النميمة لأن الجامع بينهما ذكر ما يكرهه المقول فيه يظهر الغيب‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ الغيبة نوع من النميمة لأنه لو سمع المنقول عنه ما نقل عنه لغمه‏.‏

قلت‏:‏ الغيبة قد توجد في بعض صور النميمة، وهو أن يذكره في غيبته بما فيه مما يسوؤه قاصدا بذلك الإفساد، فيحتمل أن تكون قصة الذي كان يعذب في قبره كانت كذلك، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما رد في بعض طرقه بلفظ الغيبة صريحا، وهو ما أخرجه هو في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من حديث جابر قال‏:‏ ‏"‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتى على قبرين - فذكر فيه نحو حديث الباب وقال فيه - أما أحدهما فكان يغتاب الناس ‏"‏ الحديث‏.‏

وأخرج أحمد والطبراني بإسناد صحيح عن أبي بكرة قال‏:‏ ‏"‏ مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال‏:‏ إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير وبكى - وفيه - وما يعذبان إلا في الغيبة والبول ‏"‏ ولأحمد والطبراني أيضا من حديث يعلى بن شبابة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبر يعذب صاحبه فقال‏:‏ إن هذا كان يأكل لحوم الناس ثم دعا بجريدة رطبة ‏"‏ الحديث، ورواته موثقون‏.‏

ولأبي داود الطيالسي عن ابن عباس بسند جيد مثله‏.‏

وأخرجه الطبراني وله شاهد عن أبي أمامة عند أبي جعفر الطبري في التفسير‏.‏

وأكل لحوم الناس يصدق على النميمة والغيبة‏.‏

والظاهر اتحاد القصة، ويحتمل التعدد، وتقدم بيان ذلك واضحا في كتاب الطهارة‏.‏

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول النبي صلى الله عليه وسلم خير دور الأنصار‏)‏ ذكر فيه أول حديث أبي أسيد الساعدي، وقد تقدم في المناقب بتمامه وقي إيراده هذه الترجمة هنا إشكال، لأن هذا ليس من الغيبة أصلا إلا إن أخذ من أن المفضل عليهم يكرهون ذلك فيستثنى ذلك من عموم قوله‏:‏ ‏"‏ ذكرك أخاك بما يكره ‏"‏ ويكون محل الزجر إذا لم يترتب عليه حكم شرعي، فأما ما يترتب عليه حكـم شرعي فلا يدخل في الغيبة ولو كرهه المحدث عنه، ويدخل في ذلك ما يذكر لقصد النصيحة من بيان غلط من يخشى أن يقلد أو يغتر به في أمر ما، فلا يدخل ذكره بما يكره من ذلك في الغيبة المحرمة كما سيأتي، وإليه يشير ما ترجم به المصنف عقب هـذا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ

الشرح‏:‏

حديث أبي أسيد الساعدي، وقد تقدم في المناقب بتمامه‏.‏

قال ابن التين‏:‏ في حديث أبي أسيد دليل على جواز المفاضلة بين الناس لمن يكون عالما بأحوالهم لينبه على فضل الفاضل ومن لا يلحق بدرجته في الفضل، فيمتثل أمره بتنزيل الناس منازلهم، وليس ذلك بغيبة‏.‏

*3*باب مَا يَجُوزُ مِنْ اغْتِيَابِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالرِّيَبِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد‏)‏ ذكر فيه حديث عائشة في قوله‏:‏ ‏"‏ بئس أخو العشيرة ‏"‏ وقد تقدم شرحه قريبا في ‏"‏ باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ أَوْ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلَامَ قَالَ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في قوله‏:‏ ‏"‏ بئس أخو العشيرة ‏"‏ وقد تقدم شرحه قريبا في ‏"‏ باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ‏"‏ وقد نوزع في كون ما وقع من ذلك غيبة، وإنما هو نصيحة ليحذر السامع، وإنما لم يواجه المقول فيه بذلك لحسن خلقه صلى الله عليه وسلم، ولو واجه المقول فيه بذلك لكان حسنا، ولكن حصل القصد بدون مواجهة‏.‏

والجواب أن المراد أن صورة الغيبة موجودة فيه وإن لم يتناول الغيبة المذمومة شرعا، وغايته أن تعريف الغيبة المذكور أولا هو اللغوي، وإذا استثني منه ما ذكر كان ذلك تعريفها الشرعي‏.‏

قوله في الحديث‏:‏ ‏"‏ إن شر الناس ‏"‏ استئناف كلام كالتعليل لتركه مواجهته بما ذكره في غيبته، ويستنبط منه أن المجاهر بالفسق والشر لا يكون ما يذكر عنه من ذلك من ورائه من الغيبة المذمومة، قال العلماء‏:‏ تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعا حيث يتعين طريقا إلى الوصول إليه بها‏:‏ كالتظلم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، والمحاكمة، والتحذير من الشر، ويدخل فيه تجريح الرواة والشهود، وإعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده، وجواب الاستشارة في نكاح أو عقد من العقود، وكذا من رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق ويخاف عليه الاقتداء به‏.‏

وممن تجوز غيبتهم من يتجاهر بالفسق أو الظلم أو البدعة‏.‏

ومما يدخل في ضابط الغيبة وليس بغيبة ما تقدم تفصيله في ‏"‏ باب ما يجوز من ذكر الناس ‏"‏ فيستثنى أيضا، والله أعلم‏.‏